لا أستطيعُ وصفَ حجمِ الشفقةِ التي تبكي في عينيّ حين أرى طفلةً تلعبُ أمامي بفرحٍ وحب ، عندما أشاهد أخواتي الممتلئاتِ بالنشاطِ والأحلامِ والجمال ..، أتسّمَرُ أمامي لساعاتٍ طويلة وأتساءلُ بكلِ الأشكال : ما الذي يمكن أن يحدث لهن قبل الوصولِ إلى العشرين من العمر !
كنتُ أُخبِرُ أمي باستمرارٍ عن أهميةِ اليوم الذي سأبلغ فيه العشرين عامًا ، كنتُ أقول لها بنبرةٍ سعيدةٍ جدًا : " ضرووري يكون يوم ضخم ما يتنسيش أبدًا أبدًا يماااه "
، حَسَبتُهُ قطعةَ حلوى أو بالونةً صفراء أو سماءً صالحةً للتحليق ، ظننتُهُ بستانًا لا يَخلعُ الألوان أبدًا ..
وعندما وصلت ..
كنتُ في أعلى مراتِبِ التَمَزُّق ، أُصِبتُ بسقوطٍ حاد ، سقوطٍ لا يُمكن الانتشالَ منه ، كنتُ مصابةً بالعاطفة ، غارقةً في الإنسانية ، مغمورةً بالكلمات ، مُرهَفةً ، بلا حد ، بلا حد ..، وبريئةً كصوتِ طفلٍ في شهرِهِ السابع !
نشأتُ في مجتمعٍ ذكوريٍ أحمق ، كاد أن ينالَ مني لولا أنني كنتُ أُقاومُ بشراسةٍ مُطلقة ، لولا أنني تَحولتُ إلى جزئية صلبة ، كنتُ أنهض وكأنني لم أَذُقْ السقوط ولم أتجرَّع الصفعات ، ومن حُسنِ الحظِ أنني امتلكتُ ابتسامةً لا تَعرِفُ الموت ، أو أنها كانت تتسِعُ على قَدرِ حضورِه .
لا أعلم كيف تنظر إليَّ امرأةٌ في الأربعين من عمرها !
هل تُشفِقُ أمي عليّ لأنني جئتُها صبيةً جميلة في هذه الغابة الموحِشة ؟
لِابنتي ..،
لكِ "رزان " :
سأُحاول منعكِ من المجيء ، ولكن إن لم أستطع فعل شيءٍ حيالَ ذلك ...، أنا آسفةٌ حقًا ..!
أخشى من أن تكوني من جماعتِنا يا صغيرتي ، مِمَن قال درويش في رثائِهم : " عاطفيونَ بلا قصدٍ " ..!
أخشى من أن أرى امتداداتِ الألم في وجهكِ الجميل ، أخشى من أن أراكِ في صباحٍ ما ، ترتَدين حجابًا مشبَّعًا بالألوان لإخفاءِ شُروخِ الليل وآثارِ أنيابِ الواقع !
أخشى من استخدامكِ للكُحلِ كمانِعِ دموع .
أرجو ألّا تُشكِّلَ هذه الرسالة فارقًا بالنسبةِ لكِ ..
، أتمنى لو أنكِ تشاهدينها الآن بنظراتٍ حادة وابتسامةٍ ساخرة ..
سأُحاوِلُ جاهدةً مَنعَكِ من أن تَنشئي بين القصائد والأغنيات ، فمن ينشأ بينهن يُعَذَّب بِهِنَّ عذابًا قاسيًا ولا مَفَرَ منه إلّا إليه ..!
أُريدُكِ مُحارِبة ..، أتفهمين ذلك !
تَسَلَّحِي يا طفلتي فأنتِ قادمةٌ إلى مجتمعٍ خبيثٍ يَحسَبونَكِ غُصنًا ليّنًا ينحني ولا يُقاوم ،
يَحسَبونَكِ عارًا يَجِبُ إخفاءه تمامًا وإخفاء كل معالِمه ، ولكنكِ أنتِ يا رزان ..
أرجو ألّا تَرِثي عينيّ يا صغيرتي فإنهما فاضحتان ، ممتلئتان بلا انقطاع !
أتعلمين !
لو كانَ الأمرُ بيدي ، لَجَرَّدتُكِ تمامًا من العاطفة ، لعبَّأتُكِ بالقسوةٍ ، أنتِ وجميع الصغيرات ، لصادرتُ دُموعَكُنَ بلا تراجُع ..
لكنني أخشى حقًا من أن نَصِلَ إلى هذا اليوم ، أخشى من أن يَفقِدَ العالَمُ وجودَنا الدافئ فيه ، أن يُجبرنا المجتمع والواقع على اللاشعور ، أن نتلاشى ، نتلاشى تمامًا ..!
#رهان_عبدالله
#إحدى_الرسائل