قال لي الرئيس علي عبدالله صالح ذات يوم في لقاء مباشر أثناء حرب صعدة الرابعة مع الحوثيين : ( وأنت مالك ومال هؤلاء الحوثيين , تدافع بكتاباتك عنهم , انت ما تعرف هؤلاء ولا تقرأ تاريخهم) ثم ضغط على ركبتي بيده وهو يستدعي ابن أخيه عمار محمد صالح , ويطلب منه آخر كتاب قرأه الرئيس في الليلة البارحة, فدلف الولد بسرعة الى احدى صالات القصر وعاد إليه بالكتاب وفتح فيه صفحة مؤشر عليها بقلم فوسفور بلون أصفر , وطلب صالح من أحد الحاضرين ان يقرأ ما فيه :( من كنت مولاه فعلي مولاه من بعدي) وهو مقتطف من حديث الغدير الذي يستدل به الحوثيون على احقيتهم بالولاية .. ثم عقب الرئيس يوضح لي إن هذا الكلام موجود في منهج التربية الإسلامية بالمدارس قام بإضافته وفرضه أحد المنتمين إلى المذهبية , وأشار إلى ظاهر الغلاف الذي ورد فيه إسم شخصية من بيت الوزير ضمن قائمة اسماء لجنة صياغة الكتاب .
وكرر الرئيس صالح نصيحته لي بانفعال بأن اقرأ كذلك تأريخ الماركسيين والناصريين ومستعد بتوفير المراجع , وأنا أكاد اتبسم فيما لو علقت عليه لحظتها من باب المداعبة بأن المقصود بإسم علي في الكتاب ليس بن أبي طالب ولكن على عبدالله صالح.. فعدلت عن الوسوسة.
وأضاف هذا هو مايعلمونه لطلاب المدارس ويريدون فرضه بقوة السلاح .. قلت له سيادة الرئيس أنتم اليوم تتقاتلون معهم بضراوة والضحايا كثر والدمار هائل وأنا أعرف عدم ميلكم الى الدماء , قال بكل معناه لا خيار آخر .
انه الرجل الذي خبر الحوثيين أكثر من غيره ويعرف ما توسوس به أنفسهم وهو أيضا الذي مكنهم اخيرا مما وصلوا إليه من استعصاء , وما فعلوه على المستوى الفكري خلال أربع سنوات قلب كل شيء في حياة اليمنيين وثقافتهم وقيمهم .. هم ليسوا زيدية كما وصفهم الرئيس لي أيضا , بل مذهبهم هادوية سلالية يصطدم كذلك مع قناعات حلفائهم من بعض الزيدية والهاشمية.
*هؤلاء هم الحوثيون*
أقصى ما فعلته قيادة المؤتمر الشعبي العام بصنعاء مع الحوثيين بعد رحيل صالح هو تحسين شروط بقاء جثمانه في درجة حرارة أفضل , فانتقل من ثلاجة المستشفى الجمهوري الى العسكري , يقاس على ذلك كل شيء ذي صلة بالتفاوض والحوار مع الحوثيين .
لم يصدقوا سيطرتهم على السلطة والحكم بأقل كلفة وزمن قياسي وبمساعدة ألد الخصوم , ولن يتركوها لاحقا إلا بكلفة باهضة تفوق التصور وتتجاوز باضعاف كل خسارات اليمن والتحالف السابقة.
من الصعب انتزاع اي تنازل ولو محدود من جماعة عقائدية عالية التطرف تحتفظ بجزء مهم من أرض وشعب كرهائن .
وسيقاتلون بأولاد الآخرين حتى النخاع قبل أن يجف حبر توقيعهم المراوغ على أي هدنة او سلام.
أضافت الأحداث الأمنية في الخليج والمنطقة , من ضربهم لخطوط نفط أرامكو بطائرات مسيرة الى قصفهم مطار أبها بصاروخ كروز معطيات جديدة في ذهنية الاستعلاء الحوثية وتغذيتها باوهام القوة والزعامة , فمن قوة محلية محدودة كانت على وشك الاضمحلال في معركة الحديدة أصبح يشبه لهم انهم لاعبون كبار لا يقهرون في توازن القوى الإقليمية .. وهي ذهنية تقاس عليها نتائج اي تفاوضات ومحادثات راهنة وقادمة معهم .
* سر قوة الحوثيين *
قوة الحوثيين العسكرية نسبية لأنها تتغذى من تشتت قوى الطرف الآخر وتنافرها على الأرض .. لكن المعضلة الابرز في انتقال ثقافة احتكار السلطة العائلي الى تلويث كتب ومناهج التعليم فكريا في مناطق سيطرتهم .. انها المعركة المقدسة التي لن تقبل التفاوض واختاروا لها يحي الحوثي شقيق عبدالملك كوزير للتربية والتعليم ولا يثقون بغيره للمهمة كرأس حربة .
في التسعينيات عندما دارت معركة توحيد مناهج التعليم بين الأحزاب اليمنية وجاء دور مئات المعاهد العلمية( الدينية ) المحسوبة على حزب الإصلاح ودمجها بنظام التعليم العام , حسمت المعركة الطويلة بين شركاء السلطة بأقل التكاليف , في مساومة أفضت الى تسوية أوضاع ودرجات المعلمين المحسوبين على الحزب الذين وقفوا فيما بعد طوابير أمام ديوان الخدمة المدنية ومجلس الوزراء بانتظار فتاوى والترقيات والدرجات.
من السهل حسم المعركة العسكرية مع متطرفة الحوثيين لكنه من الصعب حسم معركة الحوار الفكري معهم.
الحوثيون لا يقايضون بفكرة ولايتهم العائلية بالعوض المالي كالآخرين بعد أن تأكد لهم إن الفكرة تجلب لهم السلطة والمال على طبق من ذهب , وان القوة وحدها تأتي بكل هؤلاء جميعا .
أما مصدر قوتهم العسكرية فليس في الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة , بل في أن خصومات مكونات جماعة أنصار الله رغم اختلافات تياراتهم فكريا لم تصل بعد الى مرحلة العداوة والحقد الدفين كما هو في علاقات مكونات الطرف الآخر , نموذج ابو العباس والإصلاح , او الانتقالي وقوات الشرعية.
والكارثة ان الحوثيين ربطوا مؤخرا مصير الحل السياسي في اليمن بمسار حاضر ومستقبل العلاقات الإيرانية الأمريكية العصية على التقارب لعقود قادمة.
* من الشعارات الى السيطرة *
أوائل عام 2004 م
قبيل اندلاع حرب صعدة الاولى طلب الأمريكان من الرئيس صالح فقط إسكات شعار الصرخة الشهير(الموت لأمريكا ..الموت لإسرائيل) الذي كانوا يرددونه في مساجد صنعاء عقب صلاة كل جمعة او يخطونه على الجدران وأماكن توافد السياح الأجانب , أما اليوم فأصبح الشعار جزءا من مناهج التعليم تصدح به حناجر التلاميذ مع اطلالة كل يوم دراسي جديد , وتلطخت بعض كتب التعليم ليس بصور مؤسس الحركة وحدها حسين بدرالدين فقط كما هو حال الشوارع والمقابر , بل وبالاحاديث النبوية المدسوسة , والمعلومات العنصرية أيضا التي تمجد نظام حكم العائلة السلالي .
لم يعد حديث الولاية الذي كان يستدل به الرئيس صالح إمام زائريه لتبرير قمعه للحوثيين سوى قطرة في بحر تجريف ومصادرة الوعي والعقل الجمعي الراهن لليمنيين.
وكغيره من الأفكار والعقائد المتطرفة للجماعات السلفية والدموية الأخرى يسوق الحوثيون بضاعتهم المزجاة ويفرضونها على المجتمع وشركائهم في انصار الله بقوة الغلبة..
وعندما تكون منظمة كاليونسكو حاليا هي مصدر دعم وتمويل مشاريع طباعة مناهج التعليم بالمليارات .. تبدو في الأمر خيانة , فالامم المتحدة لا تقدم لليمنيين المعونات الغذائية والحبوب الفاسدة وحدها بل تدعم أيضا التعليم السلالي الملوث.
حركة الحوثي المتطرفة لا علاقة لها بالمذهب الزيدي ولا بما يسمى ب( الهاشمية) إلا من حيث استغلالها لهم كواجهة لتحالفات مؤقتة ستنقلب وتقضي عليهم لاحقا.
أما التماسك الذي تظهره مكونات واجنحة انصار الله حاليا فبسبب همجية طيران التحالف في صنعاء بوجه خاص وردود أفعاله الحمقاء التي لا تميز غالبا بين مدني ومقاتل .
ظهر تحالف الحوثيين وأنصار الله كقوة مؤثرة على الأرض ليس بسبب تميز عددهم وعتادهم وإنما لكثرة تناقضات القوى والمليشيات الاخرى المعادية المصطفة ضدهم رغم كثرتها.
*مرحلة الاستعصاء *
أراد علي عبدالله صالح في حروب صعدة الستة التخلص من الحوثيين ومن قوة علي محسن الأحمر معا .. لكن الرجل انزعج كثيرا عندما وقع شقيقه إتفاق الصلح بنفسه مع الحوثيين بعد الحرب الأولى فاتبعها بتفجير حرب أخرى لأنه ظن بوجود تحالف خفي بين الطرفين للإطاحة به .. فلم يكن مقتل زعيم الحركة حسين بدر الدين في يونيو 2004 م وحده كافيا بمعايير صالح لإضعاف الطرفين.
وعندما أطاحت حركة فبراير 2011 م بنظام صالح بعد عام واحد , تحالف الرجل فجأة مع أعداء الأمس الذين كانت لهم أيضا ساحتهم الثورية المقابلة للإطاحة به.
كان أولاد الشيخ الأحمر في مقدمة الذين اطاحوا بالرئيس صالح , لكنه قضى عليهم مع حليفهم العسكري حمود القشيبي في عمران بعد ذلك بتحالفه مع الحوثيين , وسقطت بذلك قوة يحسب لها في منافسة ال الحوثي على النفوذ والوجود في الشمال.
اخليت الساحة من المنافسين بالتدريج منذ21 سبتمر2014 م , وبخروج قوة الفرقة الأولى مدرع عن الجاهزية أيضا دق المسمار الأخير في نعش سلطة فبراير.
ولكن لم يعد على عبدالله صالح إلى السلطة كما وعدوه كما لم يذهبوا به إلى القبر أيضا , وما أشبه حال اليمن الذي وصل إليه بوضع صالح نفسه.
وكما هي اوضاع الجبهة الداخلية في اليمن مواتية لاستمرار نفوذ وسيطرة الحوثيين , تؤازرها ايضا أوضاع دولية مواتية لهم أيضا.. فهم يحظون بدعم روسي صيني بريطاني ايراني صامت ما دام المتضرر من صواريخهم وطيرانهم المسير هو أبرز حلفاء أمريكا في المنطقة , والفضل في المعركة لتكنولوحيا أسلحة صنعت في هذه البلدان.
لم يمنح الحوثيون حتى الآن تصاريح دخول لكامل بعثة مراقبي للأمم المتحدة الخاصة بالحديدة سوى لعدد قليل منهم , وتعترض روسيا والصين على مشروع قرار بإرسال مراقبين الى هناك باسلحتهم , تعنت يبقي على امل اشتعال الحرب بين اليمنيين في منطقة البحر الأحمر وباب المندب الى ما لا نهاية , لتصفية حسابات مراكز قوى دولية.
*انحراف مسار التسوية*
تحولت اليمن إلى غرفة عمليات إيرانية لتهديد المنطقة كلها . . ومادامت الحروب الاقتصادية المعلنة والعسكرية غير المباشرة بين أمريكا والصين وروسيا وإيران تغذي الصراع على مناطق النفوذ في الخليج العربي والبحر الاحمر وسوريا وليبيا واليمن فقد ارتهن حل كارثة الانقلاب في اليمن بمسار هذه المعطيات والتناغم معها بعد استدراج الايرانيين ذيولهم إلى حرب بالوكالة تدار من غرف عمليات خاصة بهم في اليمن .. وتتيح لهم القوى الدولية المستفيدة التغني بمظاهر انتصارات زائفة وارضاء نزعة الغرور باصدار بيانات تتبنى عمليات عسكرية بالإنابة عن الآخرين . أما واقع قدرات الحوثيين وخبرتهم بالتكنولوجيا العسكرية لا تفرق بين الصرخة والصاروخ .
والمفارقة إن الرئيس علي عبدالله صالح وهو يؤسس لمشروع توريث السلطة خاض حروب صعدة ضد عودة الحكم العائلي الكهنوتي في اليمن بشعار الجمهورية او الموت .
ولم يتعض الحوثيون لا من المقاومة الشعبية الطويلة لمشروع حكم الصالح ولا من مصير حكم أجدادهم الذي داست عليه أقدام اليمنيين , والفارق إن مشروع الصالح كان مجردا من أي مرجعية او غطاء مذهبي او عنصري , إلا رغبته في الاستئثار العائلي بالحكم والثروة.
الحوثيون اليوم يعيدون صياغة مناهج التعليم في المدارس ومؤسسات التعليم على حامل نظرية حكم الكهنوت الديني والسلالي , ويفرضون محاضراتهم العنصرية بالإكراه كفرض عين ملزم على موظفي الدولة , يلوثون المظهر الجمالي لصنعاء وكل المناطق بشعارات ظاهرها الموت لأمريكا وإسرائيل وباطنها استعادة كرسي الحكم العائلي العنصري بشلال نازف من دماء وارواح اليمنيين.
* الخروج من النفق *
ارتبط إسقاط منظومة الحكم العائلي في اليمن في العصر الحديث بالرهان على الأدوات العائلية نفسها من الداخل , فمن بيت ال الوزير الذين اجهزوا على عمهم الإمام يحي حميد الدين فبراير 1948م الى تحالفات ثوار 26 سبتمبر مع هاشميين في سلطة الامام احمد حميد الدين إنتهت بسقوط حكم الإمامة , والى نظام حكم عائلة الصالح الذي سقط غالبا بفضل تحالفات مع رموز عائلية مؤثرة , من الأخ غير الشقيق على محسن الاحمر الى بيت اخوال الرئيس مثل القاضي ومحمد اسماعيل وغيرهم , أما الذين قدموا من عمران لنصرة بيت أولاد الشيخ عبدالله الأحمر في معركة الحصبة 2011 م فكانوا يتلقون التدريب على السلاح على أيدي ضباط الفرقة الأولى مدرع .
لكل ذلك نجد أن من أبرز عوامل سيطرة الحوثيين على صنعاء , هو الخطاب العنصري المتطرف لمؤيدي للطرف الآخر الذي يشوه صورة من يسمونهم ب( الهاشميين) , وهو الطرف الأكثر مناهضة تاريخيا لسيطرة او ولاية عيال بدر الدين الحوثي وغيرهم , فيما ردود أفعال طائرات التحالف المنفلتة أيضا بضرب أهداف عشوائية كثيرة وسقوط ضحايا مدنيين في صنعاء تعزز من الروابط الإجتماعية بين المكونات الطائفية لتيارات أنصار الله وتشرعن لالتفاف المتناقضات حول ما يطلق عليه الحوثيون ب( العدوان) , بل تفرض همجية طيران التحالف على كل الهاشميين تقديم أولادهم كقرابين وفدى للحوثي انتقاما من التحالف لا من جهة الولع او الهيام بصبي الكهف عبدالملك بدر الدين.
وتكاد اليمن تنتقل من نفق الى آخر , فقوة الحوثيين وعقيدتهم في السيطرة على الحكم تقابلها قوى ومليشيات عقائدية متطرفة اخرى لا تقل خطورتها على مستقبل اليمن عن الحوثيين .. ويبدو خيار استنزافها في الميادين هو السبيل الوحيد لانهاك قواها وحماية مستقبل البلاد من همجيتها المفرطة .