آخر الأخبار :

حبة بازلاء

جميل مفرح
جميل مفرح
2023/09/11 الساعة 10:43 مساءً

 

 

 

ما الذي ينقصني فعلاً لأجعلك تعتقدين أن جسدك لا يمكن أن يكون في مكان آخر من هذا الليل..؟ ما الذي يمكن أن تلبيه هذه التفاصيل والتعاريج التي لم أستطع اعتيادها..؟ أبدو وكأنني عينان جديدتان كلما تمرأيت فيها أو تزلجت عليها.. نفس المكان وربما مكان آخر هو الذي تعثرت فيه برائحة عطرية لامرأة ظلت مني مرة ولم أجدها بعد ذلك في أيٍّ من مفقوداتي.

هذا المكان من جسدك ليس متاحاً للتزلج لأنه مظلم، وأحتاج إلى الكثير من الضوء والأوكسجين والصبر لأعبره أو أستدير عليه في أحسن الأحوال.. قد يكون منبت شعرة أو فكرة أو مسام ريبة ما تسربت مني على غفلة ذات مرة.. وقد يكون بابا مطمورا بعيداً عن الحواس ومموهاً بواحدة من حبات الخال الأربع في أذينك الأيسر.

ذات المكان.. ما يزال يسرب اشتياقاً لشيء معين فيك، ولكنه لن يكون جسدك إطلاقاً.. لأن جسدك نفسه لا يزال لا يتذكر كل مرة أين ومتى يمكن للأجساد أن تضع مفاتيحها.. حتى أنه في كل مرة أيضاً ينسى أن ثمة مكاناً تختبئ فيه الشامات الأربع، وأن ثمة كلاماً، كثيراً ما حرص على أن يكون خفياً عن عيني..
غير أن لي للأسف عينين أقل ما يضايقك فيهما كونهما فاحصتين وفضوليتين..

ليس مكاناً هذا.. إنه جزء من ذاكرة لا أدري أي نصفيها مقسوم على الآخر.. وهناك رائحة مألوفة تتسلل من الغيب، رائحة لم أصطدم بها من قبل ولكنني أدركها وأشعر بها تعبرني وتتخلل جسدي كأسلاك رقيقة جداً وباردة.. ليست رائحة بالمعني الدقيق للرائحة، ولكنها قد تكون صوتاً يأتي من بعيد وحين يتوسطنا يتحول إلى لوح زجاجي شفاف جداً يفصل بيننا فتختلط الحواس ونجاهد معاً ما يملى علينا من غيبوبات.

ليس شيئاً يكاد يذكر ما يلتف حولنا ويطوقنا في ساعديه الآن.. ليس أكثر من صورة ضبابية لا يدري أحدنا كيف أدركها ليجمعها الآخر، وتغدو مظهرا متعوداً عليه..!! ذلك مثل لوحة صغيرة تزين أحد جدرانك عشرين عاماً تضعين هيأتها في زاوية معينة من التعود، غير أنك لا تكادين تدركين شيئاً من تفاصيلها الدقيقة.. مع أن ذلك لم يكن يلزمه أكثر من لحظات تأمل وجيزة من العشرين عاماً.

ليس شيئاً مهماً هذا الوجه المشترك الذي نحاول معاً تقمصه والاستحواذ على أكثر تفاصيله.. ليس أكثر من نتيجة لغداء موجز مشترك وجدنا نفسينا فيه.. وحين ضاعت اللغة والفكرة والبديهة بيننا ولم نجد وسيلة مناسبة للتماسك حاول أحدنا تغطية ارتجافه بشيء ما، فاضطر الآخر للكلام بدلاً عنه وطرح الفكرة.. تلك الفكرة العارضة التي كثيرا ما اتفقنا فيما بعد على أنها كانت أكثر من مجنونة.

ها نحن مذاك ما نزال مسجيين على رخام الذاكرة البارد جسدين لا يجيدان شيئاً غير التمزق والارتعاش والاكتواء بعوامل التعرية.. وتبادل التقلب على حبة البازلاء التي تحتل 90% من حواسنا وهاجسنا وترقى المقدمة في أسباب الأخاديد المحفورة في هذين الجسدين.

ها نحن كالعادة ندرك أننا على مشارف الصقيع وفي ذات الوقت على حافة الحريق.. نتلامس لنتأذى وأحياناً لنتداوى مما ينقصناً.. المسافة والحواجز والبرازخ بيننا أقدر منا على ترتيب حواراتنا المبتكرة عادة، وفرض التظاهر بمشاعر ما والاحتمال من أجل شيء يفترض أن له بداية، أيا كانت تلك البداية، وليس بالضرورة أن يمتلك نهاية من أي نوع.

أحياناً يكون هناك هذيان لا يجرؤ أحدنا على إيقافه أو تأجيله.. الحدود والنهايات لا تحضر غالباً إلا في مخططات الجبناء.

#فواصلي