كان الأديب مُحمَّد عبدالولي قريبًا جدًا من الناس، قريبًا من أحوالهم، استعرض آمالهم بِشغف، واعتصر آلامهم بأسى، وغاص في مشاكلهم بعمق، وانتقد واقعهم بموضوعية، وعـرَّا مواطن ضعفهم بصدق، وفضح تخوفاتهم بحسرة، وحثهم على التغيير إلى الأفضل بقوة، ودعاهم إلى التمرد على وضعهم البائس، إلى خلق مُجتمع مُتجانس، إلى إيجاد وطن حقيقي حاضن للجميع.
وهو كما مدح الإنسان اليمني، فقد ذم في المـُقابل حياته، وهذا أحد بطلي قصة (شيء اسمه الحنين) قال وهو يُطل على جبال الحيمة: «المنازل عالية فوق القمم. الإنسان هنا نسر.. يُحلق عاليا، ولكنه يحيا حياة القاع».
وفي قصص (عمنا صالح، وذئب الحلة، والسيد ماجد، وليلة حزينة أخرى، وريحانة) حضر جانب إبداعي آخر، تفرَّد فيه مُحمَّد عبدالولي عن أقرانه اليمنيين، تمثل بنقل مُعاناته ورفاقه في سجن القلعة المُوحش، وذلك أواخر ستينيات القرن الفائت، الأمر الذي جعل أحدهم يعلق ساخرًا: «المسجون الوحيد الذي تمنيت ألا يخرج من السجن حتى يواصل إثراء حياتنا الثقافية بهذه الروائع الإبداعية هو مُحمَّد عبدالولي».
بولوجه بوابة ذلك السجن، بدأت أخطر مُنعرجات حياة مُحمَّد عبدالولي الشخصية، عام كامل من عُمره القصير قضاه خلف القضبان، دون سبب ولا جريرة تُذكر؛ الأمر الذي جعل الدكتور علي مُحمَّد زيد يُعلق على تلك الانتكاسة قائلًا: «صحيح أنَّه - يقصد مُحمَّد عبدالولي - كان يساريًا تحمس للجمهورية الأولى عند قيامها، وقطع دراسته في موسكو، وعاد ليشارك في البناء الجمهوري الجديد. لكنه لم يكن له دور سياسي خطير يجعله عرضة للانتقام والسجن، ولم يكن من الشخصيات الكبيرة في عهد الجمهورية الأولى، ولم يتول من الوظائف سوى وظيفة ليست كبيرة..». وخلص زيد إلى القول: «وما يزال سبب سجنه لغزًا يحير كل من عاشوا تلك الفترة ومن درسوها».
بعد الإفراج عنه، آثر مُحمَّد عبدالولي البقاء في مدينة تعز، وتفرغ فيها لتأسيس دارًا للنشر، أسماه (الدار الحديثة للطباعة والنشر)، واستقدم لهذا الغرض مطبعة مُستعملة من عدن، وكانت باكورة إصدارات الدار مجموعتين شعريتين (مارب يتكلم، ولابد من صنعاء) للشاعر عبدالعزيز المقالح، ومسرحية (حريق في صنعاء) للشاعر مُحمَّد الشرفي.
لم يهنأ مُحمَّد عبدالولي الاستقرار في مدينة تعز، وتعرض بعد سلسلة من المـُضايقات والمـُطاردات لمحنة السجن مرة أخرى 1972م، يمم بعد ذلك خُطاه صوب مدينة عدن، جنة الفقراء الفقيرة - حسب توصيف محمود درويش - وهناك بدأت فصول رحلته المأساوية صوب حضرموت، وبمعنى أصح صوب الموت.
كانوا 42 دبلوماسيًا ومُثقفًا يساريًا، اكتظت بهم ذات صباح طائرة الأنتينوف الروسية 30 إبريل 1973م، ثم حلَّقت بهم عاليًا في رحلة سياحية، هدفها المـُعلن تعريفهم بمعالم بلدهم الشرقية، وهدفها الخفي ما زال غامضًا حتى اللحظة، وفي المـُحصلة التراجيدية لم ينتصف نهار ذلك اليوم حتى انفجرت بهم تلك الطائرة، وهوت بأشلائهم فوق الصحراء القاحلة، وهي لم تصل أجواء حضرموت بعد.
هناك من قال عن الحادث: أنَّه قضاء وقدر، وهناك من قال: أنَّه فعل مُدبر، وأنَّ حكام الجنوب أرادوا من خلاله التخلص من بقايا الفكر البورجوازي في تنظيمهم، واستدل هؤلاء بمغادرة عبدالله الأشطل وعلي باذيب الطائرة قبل إقلاعها بلحظات، وذلك بعد أنْ أتى أحدهم وهمس في أذنيهما ببضع كلمات.
وهكذا غادر الأديب مُحمَّد عبدالولي - صاحب الأذنين غير المحظوظتين - دنيانا محروقًا، وبلا وداع، وهو لم يتجاوز الـ 34 ربيعًا من عمرة، لم يمت كأبطال أعماله غريبًا في بُلدان الله؛ بل مات غريبًا في بلادٍ قدم لها ولأجلها الكثير.