دمعة على قبر المقـالــح

حسن عبدالوارث
حسن عبدالوارث
2022/12/06 الساعة 10:07 صباحاً

 

 

 حتى هذه اللحظة ، لا أقوى على الالمام بنواصي القلم و لملمة حواشي الكلِم . فقد صدمني النبأ ، بالرغم من معرفتي الأكيدة بتدهور صحته الجسدية على نحوٍ يومي فادح ، منذ عدة شهور . وبالرغم من توقُّعي سماع هذا النبأ بين حينٍ وآخر ، منذ فترة ليست بالقصيرة !

 

الاَّ أن وقع هذا النبأ الأليم على الأسماع والوجدان كان صادماً بحق . فهذا ما يحدث لأيّ امرىءٍ تجاه كل عزيز . وهل من عزيز كعبدالعزيز !

...

هل أنهار بابك الثامن يا صنعاء ؟

هل أسلمَ حارسك الأمين الروح ؟

... وسلَّم عاشقك الأبدي الراية ؟

كتب عبدالعزيز المقالح قصيدته الأخيرة في كتاب صنعاء ، وسِفْر الوطن ، ودفتر الحياة .. وقرَّر أن يُغادر مقعده في المكان الذي لم يعد مناسباً لتواجده ، وفي الزمان الذي لم يعد جديراً بوجوده .

هكذا ، بعد رحلة طويلة مُضنية ، حطَّ القلم على صدر الورقة ، بعد أن خطَّ الكلمة الأخيرة على وجهها : وداعاً .

...

كان ظهره قد تقوَّس وانحنى ، بعد أن ناءى بكلكلِ من اثقال ما عانى هو والبلاد ..

كان ظهره ، فقط . أما قلبه فلا . وأما قلمه فلا . وأما ضميره الوطني والانساني فلا ، ولا الذاكرة .

هل كان ظهرك يا عزيز ، أم عضد الوطن هو الذي توجَّع وتهاوى وانكسر ؟

أم أنك قرّرت فجأة أن تُواري كل هذا الوجع الذي كان بحجم البلاد .. وأن تدفنه معك في رحم المدينة التي عشقت حدَّ التمزق والألم ؟

وها قد ضمَّك رحم صنعاء في رحلتك الأبدية الى الأبدية . فأهنأ برحلتك الأخيرة مع المعشوقة التي لم تَرْقَ اليها معشوقة في فؤادك يوماً .

...

كنت مُتّقد الذهن والذاكرة حتى أيامك الأخيرة ، ومشتعل الروح والشعر ، وهانىء البال بسلامك الداخلي ..

وكنت تحتفي بأصحابك في دارك - بعد أن غبتَ عن مكتبك تحت وطأة التعب - وأنت بشوش المُحيَّا ، جذِلاً بهم .

وبرغم أن الأصحاب قد تناقص عديدهم ، وخَفَت نشيدهم ، الاَّ أنك لم تُدِر وجهك يوماً عن أحدٍ منهم في عاديّ يومهم أو عيدهم .

ألم تقُل لي يوماً :

" الأصدقاء

لم يعودوا مثلما كانوا

نجوماً تهتدي بها النجوم ،

والأعداء

لم يعد لديهم من فضائل الصبر

ولا أناقة اختيار الكلمات الجارحة " .

وقد كنت تراهم في دقيق البصر وعميق البصيرة :

" هذي الكتلة الكبرى من الزحام

لم يعودوا يُبصرون بعضهم

ولا طريقهم

لا خلفَ في قاموسهم

ولا أمام " .

...

رحمة الله تغشاك يا صديقي ورفيقي ومُعلّمي .. ورحمة الوطن .

بَيْدَ أنني أبكيك اليوم ، ليس للأمر الذي قضاه الله وقدَّره ، وهو أمر محتوم ..

انما أبكيك لأنك رحلت في اللحظة الكريهة في حياتك وحياة صنعاء وحياة الوطن والناس الذين أحببت ..

اللحظة التي لم تكن قط جديرةً برحيلك ، الرحيل الذي كان ينبغي له أن يكون شبيهاً برحيل النوارس والمآذن والمرافىء والأشرعة .

هل كان الرحيل الخطأ في اللحظة الخطأ ؟

نعم ، كان كذلك تماماً .

فقد كان ينبغي لك أن ترحل - اذْ ترحل - في حالةٍ صنعائية مُوشَّاة بالابتهاج .. في سُمُوٍّ يمانيٍّ مُكتظ بالعنفوان .. في موجة فرح ، لا تكسرها صخرة ناتئة في شطّ البلاد ..

ولا يُصادرها قرصان أعور تمطَّى على صارية الفجيعة الغاشمة .

وداعاً ... يا سيّدي وحبيبي .

 

---------------------

من صفحة الكاتب بالفيسبوك