تَدافَعِي يا خيولَ النارِ مِن غُصَصِي ** ويا نُسُورَ همومي فوقها احتَشدِي

يحيى الحمادي
يحيى الحمادي
2022/12/04 الساعة 06:01 مساءً

 

(الفَــراغِــيّ)

 

إِلى بدايةِ عُمرِي.. لا إِلى الأَبَدِ

أُريد أَن تَصِلِي بي يا ابنةَ الكَبَدِ

 

مُعَـوَّذًا مِن عيونِ الكانِزِينَ معي

دموعَهُم يابساتٍ.. خالِيَ العُقدِ

 

وخارِجًا مِن غِلافي مثلَ لؤلؤةٍ

وعارِجًا في شعاعٍ ناعمٍ ونَدِي 

 

وباحثًا عن سَماءٍ لا صَرِيخَ بها

لقاتلٍ، أَو قَتِيلٍ بِاسمِ مُعتَقَدِ

 

لقد تَأخّرتُ، حتى صار يُرغِمُني

على الرُّجوعِ وُقوفٌ فَتَّ في عَضُدي

 

مَضى مِن العُمرِ عُمرٌ كاملٌ، وأَنا

أَحاولُ القَفزَ مِن سَبتٍ إلى أَحَدِ

 

أَدُورُ حول فراغٍ في الهَواءِ، كما

تدورُ سُبحةُ صُوفِيٍّ بلا مَدَدِ

 

وأَنطوِي، والدُّروبُ العانِساتُ على

حقائبي نازحاتٌ، دونما أَمَدِ 

 

ما غُربةٌ في أَقاصِي الأَرضِ شاغِرةٌ

إلَّا وَصَلتُ إِليها غارسًا وَتَدِي

 

ولا أَسًى لم يُصادِف مَن يَلِيقُ به

إِلَّا وقلتُ لنَفسي: بادِرِي، ورِدِي

 

أَنا الفَراغِيُّ.. مَوتي غيرُ مُنفصِلٍ

عن الحياةِ.. وعَيشِي غيرُ متّحِدِ

 

أنا الذي كان جُودِي لا ضفافَ له

أُفتّشُ اليومَ عمّن يَشتري زَبَدي

 

مَمالِكِي ذِكرياتٌ في النقوشِ..؛ وفي

خزائنِ الناسِ نُعمَى عَصرِها الرَّغِدِ 

 

وصُورتي في المَرايا صِرتُ أُنكِرُها

فقد نَما المِلحُ فيها، وهي لم تَكَدِ

 

وحِكمتي..، لم تعد لي حِكمةٌ، فلقد

أَكَلتُها، يومَ زادِي لم يُقِم أَوَدِي

 

تَهالَكَت في حروبِ الأهلِ أَسلحتي

فصادَنِي الخَصمُ صَيدَ الفأرِ لِلأَسَدِ

 

وبِعتُ كُلَّ جِبالي للرياحِ، وما

قَبَضتُ غيرَ عَراءِ الجِلدِ والجَلَدِ

 

وكان لي رأسُ وَعلٍ، فاشتَريتُ به

خرافةً.. وافتدَيتُ الكَبشَ بالوَلَدِ

 

وقلتُ لِلحربِ: إمّا أَن نَصِيرَ معًا

إلى الرَّمادِ.. وإلّا وَحدَكِ اتّـقِدي

 

وهل على الحربِ إلَّا أَن تنِـزَّ دَمًا

إِذا رَأت كم هَوانًا ذقتُ مِن نَكَدِي!

 

عن النجومِ حَديثي كان مُتّصِلًا

وأصبحَ اليومَ رَجمًا عن غَداءِ غَدِ

 

وكنتُ مِن بَردِ أَمنِي أَشتكي فَزِعًا

فجاءَني مَن يُداوِي البَردَ بالبَرَدِ

 

ولم أَعُد في بلادي اليومَ مُغترِبًا

فغربةُ الرّوحِ تَنفِي غُربةَ البَلدِ  

 

*****

 

أَتى علَيَّ زمانٌ لا أَرى أَحدًا 

يَسعى إِليَّ، ولا أَسعى إِلى أَحدِ

 

ولا أُجادِلُ.. إِلَّا في المَنامِ.. ولا

أَنامُ، قبل خروجِ الشّمسِ مِن كَبِدي

 

ولا أَعِي أَيَّ بابٍ كنتُ أَطرُقُهُ

إِذا سَمعتُ ثُغـاءَ الأَنجُمِ الجُدُدِ

 

رَمَيتُ مِقرابَ جَدِّي، واحتَرَبتُ على

رِضاءِ مَن أَقعَدوني، وامتَطَوا كَتَدِي

 

وصِرتُ إِن بادَرَتني بالسؤالِ يدٌ

وَقَفتُ وَقفَةَ صِفرٍ آخِرَ العَددِ

 

وها أَنا.. لم يَعد لي فِيَّ مُتَّـسَعٌ

ولم أَعُد.… آهِ ما أَقسَى (ولم أَعُدِ)!

 

*****

 

يُصِيبُني حين أَحكي غُصَّتي خَجَلٌ

لأنني في زمانٍ تافِهٍ ورَدِي

 

ناصَرتُ فيه شعوبَ الأَرضِ مُفتديًا

وما سَمِعتُ بِشَعبٍ ساءَهُ كَمَدِي

 

وعُدتُ حاطِبَ ليلٍ.. لا يَقِينَ لما

أنا عليه، ولا ما دار في خَلَدي

 

يريد كلُّ جَبانٍ منكَ تضحيةً

وأنتَ غيرَ شُعورٍ منه لم تُرِدِ

 

ومَن يَلُذ بجَبانٍ كي يُسانِدَهُ

يَفُز بِطولِ ضَياعِ الحقِّ والسَّندِ

 

فَقَدتُ ما هو أَغلَى مِن يَدَيَّ.. وما

وَجَدتُهُ لا يُساوِي دمعةَ الرَّمَدِ

 

كأنني بابُ سِجنٍ، كلما شَبَحٌ

على الجدارِ تَعَرَّى زاد مِن سَهَدِي

 

إذا رأيتُ بلادًا أَهلُها انتَصَروا

نَهَضتُ أَفرَحُ عنها، كاظِمًا حَسَدي

 

وإن كَدَدتُ بأُخرى، وانسَكَبتُ على

تُرابِها، فبَقائي غيرُ مُعتَمَدِ

 

لهم عَلَيَّ حقوقٌ لا انتهاءَ لها

وليس لي الحَقُّ حتى بامتِلاكِ يَدِي

 

إِلى متى سأعِيشُ العُمرَ مُتكِئًا

أَلُوْكُ خُضرَةَ عمري دونما رَشَدِ!

 

تَدافَعِي يا خيولَ النارِ مِن غُصَصِي

ويا نُسُورَ همومي فوقها احتَشدِي

 

ويا بَقيّةَ روحٍ في العُروقِ خُذِي

يَدَ السَّلامةِ، إِني مُطلِقٌ جَسَدي

 

سيَنتَهي كُلُّ هذا إِن شَعَرتُ به

وقد شَعَرتُ.. ومثلي كُلُّ مُضطَهَدِ

 

#يحيى_الحمادي