لمحة عن تاريخ دخول الجسد لعالم الفن

بسمة شيخو
بسمة شيخو
2022/05/10 الساعة 05:50 صباحاً

 

 

يذكر نيتشه في مقدمة كتابه "العلم المرح" (كثيراً ما سألت نفسي إذا ما كانت الفلسفة في المجمل حتى اليوم تأويلاً للجسد وفي الوقت نفسه سوء فهم للجسد) فالجسد هنا -عند نيتشه- نقطة الانطلاق للتأويلات والأفكار، لذا هو بالضرورة نقطة الانطلاق في عوالم الفن المختلفة باعتبار الفن هو الابن الشرعي للفلسفة ينطبق على أحدهما ما ينطبق على الآخر وباعتبار الجسد المادة الخام الحاضرة في الحياة وفي الفكر والمدركة حسياً ومادياً من الجميع دون استثناء قبل أن تحمل معاني معنوية شعورية يختلف إدراكها بين فرد وآخر تبعاً لكثير من المعطيات المتعلقة بالعلم والثقافة والانفتاح نحو الآخر وتقبّل الحريات وما إلى ذلك من تفاصيل لا نستطيع نكرانها عندما يتعلق الأمر بالجسد وفهمه، لذلك كان –الجسد- أول ما يخطر على بال الفنانين من أشكال وتكوينات تكون محور أعمالهم.

 

لمحة عن تاريخ دخول الجسد لعالم الفن:

 دخول الجسد لعالم الفن ليس مرتبطاً بالمعاصرة أو بالفنون الحديثة حتى، فقد بدأ مغامرته منذ بداية الرّحلة البشرية في العصر الحجري وما رافق تلك الحقبة من رسوماتٍ على جدران الكهوف غالباً ما تكون لأجساد بشريّة مع صور للحيوانات المألوفة والمتعارف عليها ضمن الحياة اليومية، حينها كان الجسد حاملاً لغويّاً يؤدي معنى مقصوداً أو فعلاً قائماً يدلّ عليه شكل الجسد وحركته وحالته التعبيرية الظاهرة في الرسم، ومع اختراع الكتابة بأولى صورها أرخى الجسد عن ظهره حمولته اللغويّة ليجد نفسه بعد سنوات محاطاً بهالة من القداسة فهو ليس صورةً أوعملاً نحتيّاً صرفاً إنما صورةٌ مجسّدة لإله متخيل في اللاوعي المجتمعي، وخير صورة لهذا الإله هو جسد الإنسان مع مخالطة لبعض الأجزاء من أجساد الحيوانات لإضفاء صفات خارقة يعجز عنها الجسد الإنساني الصرف، حينها كان تجسيد هذا الإله يكون بطريقتين إما مختزلاً رمزيّاً كآلهة العرب قبل الإسلام (إساف، نائلة، اللات....) وإما يكون ظاهراً بكل تفاصيله كالآلهة اليونانية والرومانية (فينوس، بوسيدون...).

ليبدأ بالظهور في الفنون كعنصر تزييني بحت كأي زخرفة تحقق نسباً جمالية بالغة الدّقة، فمنه استقى دافنشي النسبة الذهبية، وبقي الجسد كذلك بأغلب فنون عصر النهضة بحمولة جمالية تضاف له حمولة معرفية في حال كان العمل يحكي حكاية أو أسطورة.  

ومن عصر لعصر تبدّل ظهور الجسد فصار يظهر بصورٍ رمزيّة إلى حدٍّ ما طُمست تفاصيله ومعالمه ولم تعد نسبه مهمة، فالمهم ما يمثله في لوحات ذات رسائل هادفة مجتمعية وسياسية وما إلى ذلك، فنجد العمال في لوحات ريفيرا ، وكذا الفلاحين في لوحات فان كوخ على سبيل المثال يظهرون من خلال ما تمثله أجسادهم فقط.

 هنا يتخلص الجسد من أعبائه الجمالية ويكتسب صورةً أخرى يطلّ بها على المشاهد فهو دال في هذه الأعمال ودلالته مباشرة محمولة عليه بوضوح تحضر في ذهن المتلقي وتنضج بسهولة كما شاءها الفنان.

حضور الجسد في الفنون المعاصرة:

 ومع دخول الفن في مرحلة المعاصرة لم يعد الفنانون الذين يبرعون في تجسيد الأجساد في لوحاتهم ومنحوتاتهم هم -فقط- عرابو حضور الجسد في الفن، فقد توسعت الحواضن الفنية وتنوّعت مشاربها لتكون الخيارات أرحب لإيصال الأفكار التي تسكن فكر الفنان وتصنع هواجسه التي يسعى لإيصالها في أعماله الفنية، وإذا ما كان دخول الجسد خياريّاً في بعض أنواع الفنون (فن الفيديو، التصوير الضوئي، الفن المفاهيمي(conceptual art)، وفن التركيب (installation art) فهو أساسيٌّ وإلزاميٌّ في بعضها الآخر (فن الجسد، فنون الأداء، الرّقص التعبيري...).

يرتكز الفن المعاصر على حوامل ثلاث أساسية لابد من استعراضها: 

• الجمهور: وهو القوة التي ترجّح نجاح العمل الفني أو فشله، وهنا إذ نناقش حضور الجسد في الفنون المعاصرة فنجد أنه يتوجب على الجمهور -المتلقي الواعي- الإفلات من قبضة الأحكام المسبقة التقليدية المتعلقة باستخدام الجسد وتجاوز فكرة الحرمانية التي تحيط بالجسد وبعريّه بشكل خاص، والقفز فوق أسوار الابتذال التي كانت تطوق ظهور العري في فترة من الفترات وربما إلى الآن فيكون الجسد أداة مثيرةً للغرائز بدل أن يكون مثيراً للفكر والتفكّر؛ فالجمهور في صورته المثالية يرتدي نظاراتٍ حيادية ينظر فيها للجسد الماثل أمامه كحالة جمالية معرفية ثقافية فنية ويحاكم العمل وفق هذا المنظور، بعد أن يضع التقييم الأخلاقي والمحاسبة الدينية جانباً ويطفئ النار تحت شهواته، فبوتقة الحكم على الأعمال الفنية ضيقة لا تتسع إلا للذائقة الشخصية والمخزون المعرفي والثقافي الذي يرتقي بالعمل المقدّم إلى منزلة عالية فترتفع حينها قراءة العمل إلى درجة العمل الفني ذاته وفق ما قاله فوكو.

 لذا تكون أفضل المقاربات النقدية تحكّم الطابع العقلي المعرفي الذي يحمل سمة تجريدية مع الحالة الشعورية التي تسيطر على الروح وتمنحها نشوتها الخاصة؛ للوصول إلى موت الجسد كتكوين جنسي مثير للغرائز ومسيل للعاب والتعامل معه على أنه تكوين إنساني حامل للأفكار والعواطف يوصلها بسهولة بحكم أنه شكل مألوف للعين لا يشغل الفكر بإدراك معقّد لتفاصيله الشكلية المرئية، فينشغل العقل بتأويلات العمل الفني الأوسع، فيكون الفهم متجليّاً ضمن هذين المحورين: (تطبيق أوامر العقل) و(الانصياع لحرية الرّوح).

 فلا يبقى من مراقبة الجسد بتفاصيله وحركاته وسماع نأماته سوى امتلاء النفس البشرية بنشوة الفن وإشباع العقل بجمالية الفكرة التي صارت بديلاً ملموساً في الفنون المعاصرة عن الجمالية المادية للعمل الفني، وهذا يجعل آلية التلقي رحبةً أكثر إلا أنها تصير مربكةً بعض الشيء بغياب للمعايير السابقة التقليدية التي قيّدت الفن سابقاً سواء أكانت معايير جماليّة أو قيود دينية تفرض تأويلاتها الخاصة الضيقة على عوالم الفن المفتوحة نحو الكون بأسره؛ فلم يعد التذوّق حكراً على المتذوقين الجماليين بل صار أوسع، وفضاء التأويل أرحب، فهنا لم يعدّ الجسد هو الدال المباشر بل أصبح حضوره أو الحدث الذي يحمله هو الدال في العلاقة السيميائية التي تحكم مشاهد العمل الفني، والمدلول لم يعد مباشراً بل صار فكرة حاضرة في العقل المعرفي الجمعي للفنان والمتلقين بآن واحد.

ومن المطبات التي تقف في وجه الفنان فيما يتعلق باستخدام الجسد في عمله ، هو تفكيره بالمتلقي وتنفيذ العمل الفني تبعاً لتوقعاته بكيفية تقبل عمله على اعتباره دارياً بسكولوجية الجمهور وطريقة تقبله لبعض الأمور فيحصر عمله ضمن الإطار التقليدي في استخدام مصطلحات ورموز وإشارات آمنة لا تخدش حياء المشاهد ولا تحرّك مستنقع الفكر الجامد، دون أن ينتبه (أن أكبر همّين للإنسان خلق شبكة من التقاليد ثم تدميرها، بمجرد ما يشعر الإنسان بأن إيجابيتها تتلاشى ودون هذه الإزالة لا يوجد تقدّم في المجتمع) كما ذكر غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير، وهنا دور الفنان بأن تكون لأعماله الفنية أسناناً تقضم ثوابت التقاليد وتهزّ عرشها ليتاح مكانٌ في المجتمع لكلّ جديد وتجد الحضارة مكاناً للاستقرار.

لكن هذا لا يعني حتماً حشر الجسد كجزء من العمل الفني دون مبرر مقنع، فيتمّ إقحامه لينال العمل ثرثرة زائدة ويشار للفنان (المنتمي غالباً لبيئة مغلقة) بالبنان على أنه شجاع لا يخيفه مجتمعه وبأنه بهذا يسحب البساط من تحت الأحكام المسبقة البغيضة؛ لا يدري أنه بذلك قد أحدث إرباكاً في فهم فكرة العمل وقام بتشويه حضور الجسد في الأعمال الفنية الأخرى محولاً إياه كسلعةٍ ليست جنسية هذه المرة بل تجارية تزيده ربحاً من المشاهدين؛ وهو بذلك ينشغل بالجمهورعن الحامل الثاني لعمله وهو المفهوم.

• المفهوم: يعتبر العمود الفقري للفنون المعاصرة وهو المشهد الذي يطلّ عليه المتلقي من نافذة العمل الفني، فالفنون المعاصرة ودعت كلّ الاشتراطات السابقة المسيطرة على عالم الفن التشكيلي وبدأت حالة من رفض للماديات وما يرافقها من بنى شكلية وتكوينات حسية (في مقدمتها الجسد) على حساب الفكرة التي علت منزلتها لتنازع بحضورها أمهات اللوحات في المتاحف العالمية على مكانتهم، ومع ذلك فإنه لم يمح الجماليات البصريّة بشكلٍ نهائي في كلّ الأعمال إلا أنها صارت بمجموعها ظاهرة تحمل فكرة تستحق الدراسة والتحليل والتأويل، يقول فريد الدين العطّار "العين قوت الرّوح" وما يبهرها من جمال وبهاء وفتنة هو ما يغذي الرّوح الجائعة أبداً للجمال، وهذا فقط ما كان يحكم تمثّلات الجسد وحضوره سابقاً، أما جمالياته في الفن المعاصر فهي تغذي الرّوح من العين والفكر أيضاً، فنراها تخدم المفهوم الذي قام العمل الفني على شرفه في الأساس لأجل إيصال الرسالة التي يريد الفنان إيصالها.

 فالجسّد في تمثّلاته المعاصرة محسوسٌ مدرك يحملنا نحو ما هو فوق المحسوس حيث الوجهة الجديدة. 

صرنا نشاهد العمل الفني بصيغ مختلفة، فيكون حضور الجسد داخله مختلفاً بالضرورة مثل حضوره في فيلم فيديو(video art) يعرض في أماكن مختلفة وعلى قنوات التواصل فيكون الإنسان بجسده هو محور الفيلم من خلال ما يقوله أو يفعله أو يتحركه، وربما يكون حضوره تجريدياً لا يظهر منه سوى ظلاله أو بعضاً من أعضائه التي لا يتمّ التعرّف عليها مباشرةً، وقد يكون الجسد صانعاً للبهجة من خلال حركاته وليونته في عروض الأداء (performance) فنراه يحلّق، يدور، يتماوج يتلاشى يقصّ لنا حكاية من البداية للنهاية، أحياناً يبدو الجسد بديلاً عن اللوحة فيحمل الرسوم على سطحه فيما يسمى فن الجسد (body art) فيتبدل الرسم وفقاً لحركة الجسد نفسه أو وفقاً لاجتماع عدد من الأجساد سوية لخلق تكوينات فنية لونية لا تشي بسر أنّها محمولة فوق الأجساد.

  يحضر الجسد أيضاً في فن التركيب (installation art) الذي يعتمد على وضع عدد من التكوينات ضمن فراغ معيّن فيكون الجسد أحدها ثابتاً أو متحركاً وفق رؤى الفنان وكذلك في الفن المفاهيمي (conceptual art) وغيره الكثير من الأشكال الجديدة للفنون التي تركّز على الفكرة في صناعة الفن المعاصر وتستعين بالجسد ليكون حاضراً ممثلاً عن نفسه، أو مندوباً عن فكرة لا تملك شكلاً يهيئها لتكون إشارة تستطيع الوصول للمتلقي وإلقاء دلالتها على كاهله، فهي تضع العمل الفني وجهاً لوجه أمام العقل، فاتحةً المجال لتأويلات كثيرة وعديدة؛ وبذلك يتحوّل الجسد لوسيلةٍ بدل أن يكون غاية، فصار الجسد عكازاً يستند عليها المشاهد ليصل للمفهوم المقصود.

 وقد يكون الطريق للمفهوم وعراً بعض الشيء، لا لضعف في الأدوات التعبيرية المستخدمة ولا لغموض الفكرة المقصودة بل لأنه يظهر بحلته النهائية غالباً بمساعدة كاملة من دعامته الثالثة وهي التكنولوجيا. 

• التكنولوجيا: التي ترتبط بصناعة هذه الفنون كما ترتبط بطرق عرضها وتقديمها إذ تحتاج لمعدات وشاشات وحسابات على الانترنت وأجهزة مراقبة ومجسات تركب على الجسد وتسجل الحركات وكاميرات والكثير من التفاصيل التكنولوجية التي من الممكن أن تكون عصيةً على الوصول لبعض المهتمين التقليديين الذين لا يملكون المرونة الكافية للتعامل مع العالم الرقميّ، ولا يبدون استعداداً لنسيان الطرق لصالات العرض وتعلّم الإبحار في عوالم التأويل والخيال للوصول لجزيرةٍ بعيدة يرسمها الفنان في خياله ويرميها في سماء عمله الفني، حينها سيكون ظهور الجسد ضمن شاشة، أو عبر إضاءة معينة أو من خلال تسجيل حركته وإلقائها على تكوينٍ رقمي، وغيرها من الوسائل التكنولوجية التي من الممكن أن تكون اللباس المقترن بظهور الجسد.

إذن فظهور الجسد بحقيقته في الفنون المعاصرة ظهورٌ آني سرعان ما يزول لصالح تمثّله للمفهوم خلافاً لما كان سابقاً، إذ كان الفنان يخلّد الجسد بحضوره في لوحته ومنحوتته بينما الآن الجسد هو من يخلّد الفكرة بحضوره فهو لم يعدّ محمولاً على القماش ومكبّلاً بخطوط ومساحات لونية ولا مصنوعاً من حجرٍ أو خشبٍ أو معدن، فصار يظهر بلا وسيط، لا يخجل من شكله وتفاصيله يقف بقوة ويؤدي رسالته وينطق بلسانه، من هنا يختلف التعاطي مع الجسد ما بين الفن الحديث (التقليدي) والفنون المعاصرة فآلية تمثّله تغيّرت وبالتالي آلية استقباله لابد أن تتبدّل وتفلت من قبضة القراءة المعيارية المنهجية فالمتلقي هنا لا يستطيع تكوين خلفية مسبقة عن تمثّلات الجسد في الأعمال الفنية حيث أن كل تمثّلٍ للجسد في عملٍ فني يعدّ مغامرةً قائمة بذاتها تحمل حيرة ومتعة توجس وترقب واكتشافات مستمرة غير مكررة ولا متوقعة، فالفن هنا يرخي جزءاً من حمولته الثقافية والمعرفية على أكتاف الجسد ويطلب منه إيصالها بطرقٍ شتى من خلال عروضٍ حيّة أو أفلامٍ مسجّلة أو صورٍ متحركة، تنصيبات، تكوينات منوّعة يصنعها الفنان ويوظّف الجسد بما يخدم رؤيته للموضوع ممتلكاً جسداً حراً من كلّ قيد قادراً على تبني الأفكار بمرونة تامة.

 وبهذا نكون ابتعدنا بظهور الجسد عن ثنائية القبح والجمال التي كانت تحكم تمثلاته سابقاً وصار تمثله مجازاً يحتمل الفهم والوصول، كما يحتمل الضياع والأفول، لم يعد ظهور الجسد مقترناً ببصر المشاهد وربما غرائزه ومعتقداته، بل صار متعلقاً ببصيرته ومخزونه الثقافي. 

لا نستطيع الجزم بأن تمثّلات الجسد في الفنون قد انتهت، فقد كان فنانو العصور السابقة يظنون ذلك إلى أن بدأت الفنون المعاصرة تتعامل مع الجسد بطرقٍ مغايرة فها هو يطلّ كلّ مرةٍ بجانبٍ مختلف، ونبصر منه ما جهلنا ويحمل مالم نتوقّعه فهو راقص محلّق أو نائم هادئ، عاري أو متدثر، معتم مضاء ومضيء، ثابت في صورة أو متموّج متحرّك، ثرثار أو صامت يحمل سهولاً ممتدة وجزراً نائية بحار وصحارى، لا ثيمة ثابتة لحضوره باعتباره صنو الرّوح فهو يحمل من الأدغال المعرفية ما لم يستطع العقل الواعي الإحاطة بتفاصيله لذا لابد من تمثّلات جديدة تنشأ مع أعمال حديثة مستقبلية تفتح أمام الجسد أبواباً مختلفة تلائم ما نخطو نحوه من أفكار ومفاهيم جديدة.